على امتداد الفترة الماضية، حكم "تفاهمان" العلاقة بين "التيار الوطني الحر" وسائر الأفرقاء على الساحة الداخليّة، هما "تفاهم مار مخايل" مع "حزب الله"، الذي أسّس لعلاقةٍ متينة طويلة المدى، و"تفاهم معراب" مع "القوات اللبنانية"، الذي كرّس ما سُمّيت بـ"المصالحة المسيحية".
وإذا كان التفاهم الأول "صمد" نسبياً، توازياً مع نجاحه في تجاوز الكثير من "المطبّات" التي اصطدم بها، فضلاً عن التحديات التي واجهته، فإنّ الثاني "ترنّح" سريعاً، وسقط تلقائياً في شقّه السياسي، بعدما افترق "طرفاه" على السلطة والمحاصصة وما لفّ لفّهما.
رغم ذلك، ثمّة من يقول إنّ الأيام الأخيرة شكّلت "فيصلاً" على خطّ التفاهميْن المذكوريْن، مع "التوتر" غير المسبوق على خطّ العلاقة بين "التيار" و"القوات"، والذي شهد أكثر من ترجمةٍ في الشارع، لم يُعثَر فيها على أيّ أثر لـ"المصالحة المزعومة".
ولا تبدو العلاقة مع "حزب الله" بمنأى عن التحوّلات الجديدة، في ظلّ حديثٍ متزايدٍ عن "ابتعادٍ تدريجي" عن "الحزب" بدأ رئيس "التيار" الوزير السابق جبران باسيل يمارسه عملياً، ولو بقيت خطواته "خجولة" نسبياً...
"الحرب" بدأت!
على خطّ العلاقة بين "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية"، يبدو واضحاً أنّها انحدرت إلى المستوى الأدنى، بعدما نزل طرفاها السلّم درجة درجة، من "التفاهم الشامل" إلى الاكتفاء بـ"المصالحة" باعتبارها "إنجازاً تاريخياً" لا يجوز "التفريط" به، قبل أن يدفناها من دون أسفٍ على "شبابها"، الذي يقول كثيرون إنّها لم تعِشه أصلاً.
ولعلّ ما حصل أمام المقرّ العام لـ"التيار الوطني الحر" في ميرنا الشالوحي قبل يومين، من توتّرٍ "مُفتَعَل" خير دليلٍ على ذلك، بمُعزَلٍ عمّن يتحمّل المسؤوليّة في "افتعال" الأحداث، التي سرعان ما ارتدت لبوساً "طائفياً"، وكادت تأخذ البلاد إلى "مجهولٍ"، علماً أنّه أتى بعد "بروفا" من الإشكالات، كان آخرها ما حصل على هامش تظاهرة "العونيّين" دفاعاً عن مقام الرئاسة، على طريق قصر بعبدا، الأسبوع الماضي.
صحيحٌ أنّ الطرفيْن "يتقاذفان" كرة المسؤوليّة عمّا حصل، بحيث يرى "الوطني الحر" أنّ مجرّد تجمّع مناصري "القوات" أمام مقرّ "التيار" كافٍ لـ"اجتذاب المشكل"، فكيف بالحريّ إذا ترافق ذلك مع إطلاق شعاراتٍ استفزازيّة، ورشق حجارة، وتهديدٍ ووعيد وغير ذلك. وفيما يضع "العونيّون" هذه الممارسات في خانة "الاغتيال السياسي والإعلامي" الذي تبذل "القوات" كلّ جهدها لتحقيقه أخيراً، ينطلق "القواتيون" من رواية "نقيضة" تضع تجمّعهم أمام ميرنا الشالوحي في سياق "ردّ الفعل" على إطلاق نار حصل على مواكبهم السيارة التي كانت تجول في مختلف المناطق، وبينها أوتوستراد ميرنا الشالوحي الذي "ليس مُلكاً لشخص"، وفق ما يقولون.
وبين هذا وذاك، فضلاً عن البيانات "المُسِمّة" التي صدرت عن الجانبيْن قبل وبعد الإشكال الأخير، يبدو الثابت والأكيد أنّ "الحرب" بين الجانبيْن انطلقت، وهي "تنذر" بمزيدٍ من جولات الاشتباك، ربما بعدما أدرك كلّ من "التيار" و"القوات" أنّ مصلحتهما السياسية، ولا سيما في شقّها الشعبوي والتعبوي، تقتضي رفع السقف، لكن قد يكون عليهما أن يتنبّها إلى أنّ "السلم الأهلي" يجب أن يغلب على كلّ الحسابات الآنيّة، خصوصاً أنّ "الجرّة لا تسلم... كلّ مرّة"، وأنّ أحداً لا يرغب باسترجاع الماضي "الأسود"، وويلاته التي لم تنتهِ فصولاً بعد.
تمايز... وتباعد
صحيح أنّ "الطلاق الكامل" بين رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، لا يجد "نظيراً" له على خطّ العلاقة مع "حزب الله"، لكنّ الأكيد أنّه لم يترجم "تمتيناً" لها، كما خال كثيرون، بل على العكس من ذلك، ثمّة بين المراقبين من بدأ يرصد "تباعداً" بين الجانبيْن، على أكثر من مستوى.
ولعلّ المؤتمر الصحافي الأخير لباسيل، والذي تناول فيه سلسلة من الملفّات الداخلية، جسّد هذا "التباعد" بوضوح، حيث يتوقّف البعض عند جملةٍ من "المؤشّرات" التي تضمّنها المؤتمر، والتي لا يُعتقد أنّها نزلت "برداً وسلاماً" على "الحليف"، بل إنّ بعض المحسوبين عليه لم يتردّدوا في التعبير عن "انزعاجه" منها، ولو أبقى على ذلك في حدوده "الافتراضيّة" المعقولة.
من هذه المؤشرات مثلاً الموقف الذي أطلقه باسيل من تمسّك الثنائي الشيعي، و"حزب الله" في أساسه، بحقيبة الماليّة، واعتبار ذلك "عرفاً" كرّسه اتفاق الطائف، وهو الأمر الذي رفضه رئيس "التيار الوطني الحر"، وصولاً إلى حدّ تشبيهه الأمر بـ"المثالثة التي نرفضها"، فيما كان ينتظر منه "الثنائي" موقفاً "تضامنيّاً" بالحدّ الأدنى، ولو أنّ باسيل "انسجم" مع "الثنائي" في مكانٍ آخر، برفضه الطريقة "الأحادية" في تشكيل الحكومة، من دون التشاور مع الكتل السياسيّة.
وإلى هذا المؤشر، تضمّن المؤتمر الصحافي لباسيل سلسلة مؤشّرات أخرى تكرّس "التمايز" عن "حزب الله"، سواء لجهة مقاربته "السلبيّة" لزيارة رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية، و"تناغمه" في ذلك مع تصوب "خصوم الحزب" عليها، أو لجهة "تقديره" بأنّ "حزب الله" يفكّر بالانسحاب من سوريا، مع ما لهذا الأمر من "حساسيّة" لدى الأخير، فضلاً عن إثارته ملف ترسيم الحدود، من بوابة وجوب إنهائه "من دون مزايدات"، في رسالةٍ بدت موجّهة صراحةً إلى "الثنائيّ".
ويضع الكثيرون هذا التمايز والتباعد في سياق "تأثير" العقوبات الأميركية على حلفاء "حزب الله"، والتي شملت في آخر "تحديثاتها" الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، وسط "التهويل" بأنّ باسيل قد يكون "التالي" على اللائحة، علماً أنّ "نأي" باسيل بنفسه بالكامل عن هذه العقوبات، وعدم تعليقه عليها من قريب أو بعيد، هو أيضاً من الأمور التي أثارت "نقزة" لدى "حزب الله" بشكلٍ أو بآخر.
استراتيجية جديدة؟
لا يبدو سقوط "تفاهم معراب" خاضعاً للأخذ والردّ، ولو أنّ بعض عرّابي شعار "أوعاخيّك" لا يزالون يحاولون الحديث عن صمود شقّ "المصالحة" فيه، ربما في محاولة لـ"حفظ ماء الوجه"، الأمر الذي تكذّبه الميادين، والتي توحي على النقيض، بأنّ هذه "المصالحة" لم تنتقل أصلاً إلى "نفوس" مناصري الطرفين، التي لا تزال "عالقة" في الماضي.
لكن، في المقابل، لا يزال "تفاهم مار مخايل" يتمتع بـ"حيثيّته"، فيما يتمسّك المدافعون عنه بنظرية أنّ "التيار" و"الحزب" سبق أن دحضا فرضية "ذوبان" أيّ منهما في الآخر منذ لحظة التوقيع عليه، وهو ما سمح لهما بالانتصار على كلّ الظروف المعاكسة، وتجاوز كلّ "الألغام" التي وُضِعت في طريقه.
رغم ذلك، ثمّة من يقول إنّ "عدم الذوبان" شيء، و"الافتراق الاستراتيجي" شيءٌ آخر، وهو ما أوحت به "الاستراتيجية" الجديدة التي وضعها باسيل على الطاولة، وقوامها ربما "الحياد" الذي لم يعد "نفور" الحليف منه بخافٍ على أحد...